الخميس، 20 فبراير 2014

البرامج " التفاعلية"على أثير الإذاعات الخاصة بالمغرب بين الإفراز المكبوت والحل المعطوب : مصطفى شكــدالي*

نشرت من طرف : ABDOUHAKKI  |  في  الخميس, فبراير 20, 2014

البرامج " التفاعلية"على أثير الإذاعات الخاصة بالمغرب بين الإفراز المكبوت والحل المعطوب : مصطفى شكــدالي*
 مقدمة
الحديث عن المشهد السمعي البصري بالمغرب يقودنا عبر عدة محطات ولعل أبرزها يتمثل في تناسل وانتشار المحطات الإذاعية الخاصة وما تنتجه من برامج ذات المواضيع النفسية والاجتماعية والطابوهية. برامج تجاوزت الجرأة إلى التجرؤ للخوض في قضايا تستلزم التمكن من متن ومناهج العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع بالإضافة إلى تكوين في الأندراكوجيا (تعليم الكبار) حتى يمكن التواصل  مع المستمعين بخطاب مبسط بعيد عن التنميط والابتذال.
في هذا المقال سأحاول من موقعي أولا، كأستاذ باحث في علم النفس الاجتماعي وثانيا كمتدخل في برنامج إذاعي ، أن أقف على بعض النقط المرتبطة بهذه البرامج خاصة فيما يتعلق بطبيعة مواضيعها وبطريقة معالجتها للقضايا المطروحة للنقاش. سأحاول قدر المستطاع، بحكم تتبعي لأغلب هذه البرامج، تصنيفها وتحليل بعض من مضامينها دون أن أذكر أسماءها أو أسماء المحطات التي تبثها. لابد كذلك من الإشارة إلى أن تناولي لهذا الموضوع لا تمليه علي أية رغبة في الوصاية على هذه البرامج، بقدر ما أن الغاية التي أصبو إليها هي تلك المتمثلة  في فتح نقاش بمنطق السؤال العلمي والنقد البناء.
  البرامج الأثيرية الطابوهية : تفاعل أم انفعال؟
لعل المتتبع للبرامج الأثيرية الحوارية عبر الإذاعات الخاصة بالمغرب والتي تضفي على نفسها بهتانا صفة التفاعل مع المستمعين، سيلاحظ أن المواضيع التي تطرحها للنقاش والحوار تتجه، في أغلب الأحيان، إلى الخوض في البوح بقضايا تعبر عن تحولات اجتماعية قيمية يعرفها المجتمع برمته. قضايا يدور حوارها المركزي حول الجنس كقضية العذرية والممارسة الجنسية، الشرعية منها وغير الشرعية، وقضايا الحب والغرام والعشق الممنوع والدعارة والإجهاض والاستمناء والجنسية المثلية وغيرها. قضايا قد تتلخص في اشكالية العلاقة مع الذات ومع الغير وما تحمله من مؤشرات نفسية واجتماعية لما يعرفه المجتمع المغربي من تحول على مستوى التواصل الاجتماعي في بعده القيمي والعلائقي. قضايا كانت تناقش همسا وخلسة حتى جاء تحرير الإعلام السمعي لتجد لها مكانا للبوح على أثير الإذاعات الخاصة.
قد يقول قائل؛ إنه بفضل هذه الإذاعات قد تم تحرير الأفراد أو بالأحرى المستمعين من ضغط التعتيم والدفع بهم للبوح بأسرارهم. قد يكون الأمر كذلك من وجهة نظر سطحية لا تنفد لتحليل وفهم القصور الذي تعانيه هذه البرامج على مستوى طرق تناول هذه القضايا والتي تحتاج في العمق إلى معالجة ومعاينة علمية وميدانية. ذلك أن هذه البرامج تنزاح بمواضيعها عن الوجهة الأنسب لمعالجتها وتتجه بها نحو منطق الاستهلاك والفرجة. إنها الغاية التي تبرر الوسيلة والغاية هنا هي الوصول إلى أكبر عدد من المستمعين في ركب المنافسة على الرفع من نسب الاستماع. وبذلك تحمل بين ثناياها الحجة القطعية لتفنيد كل ادعاءاتها عندما تؤكد أنها تساهم في بلورة حس نقدي يساعد المستمعين على تجاوز مشاكلهم.
إن اللجوء إلى تناول مواضيع طابوهية بطرق بذيئة إلى حد الكشف عن العورات قد يقابله من جهة الاستماع ما يمكن تسميته ب "استراق النظر السمعي" voyeurisme وهو المنطق الذي تتبناه أغلب المحطات الأثيرية الخاصة لتحقيق الغاية التي تصبو إليها. إننا بهذا المنطق لا نكون إزاء مستمعين فاعلين، بمعزل عن المتدخلين في البرامج،  بقدر ما نكون أمام " سُراق للسمع". من هنا ينقلب التفاعل إلى انفعال يغذي، بطريقة أو بأخرى، استهامات المستمعين المفترضين والذين هم في إقبال مستمر على استراق السمع ومتابعة هذه النوعية من البرامج.
للوقوف على بعض مظاهر هذا الانفعال الذي تعززه أغلبية البرامج الأثيرية للإذاعات الخاصة في محاورتها لمستمعيها لابد من محاولة رسم ملامح المستمعين والمنشطين و"المنشطات" لهذه البرامج على حد سواء. إلا أن تحديد هذه الملامح لا يعني أنها صورة فجة تنطبق على الجميع ولكن بمعنى أنها عرضانية Transversale يشترك فيها المستمع والمنشط كل حسب موقعه في عملية "التواصل" الأثيري.
المستمع - المتدخل : تواصل للظهور عن طريق الإظهار
قد يعتقد البعض أن مهمة المذياع الأساسية في التواصل تقتصر فقط على السمع بيد أنها من وجهة نظر نفسية بحتة قد تشمل، بمعنى من المعاني،  كذلك "الظهور". الظهور الذي نتحدث عنه في هذا السياق يتعلق أساسا بالحالة الطابوهية التي يصرح بها المستمع على الهواء والتي تصبح مرئية في إدراك المتتبعين أو بالأحرى في أذهان سُراق السمع. فالمستمع الذي يسرد تفاصيل حالته عبر الأثير والمسكوت عنها في محيطه المباشر كأنما يستجيب بفعله هذا لرغبة قاهرة تدفع به لتصبح حالته مرئية بطريقة أوسع وأبعد من محيطه.
من هذا المنطلق يمكن وصف هذا الفعل بعملية الظهور عن طريق الإظهار والكشف عن المستور والحميمي الذي يفقد سمته عندما يصبح متداولا على الهواء. إنها الضريبة التي يؤديها المستمع وهو يكشف عن قضاياه الحميمية لتصبح مجرد رقم في معادلة فرجوية ضمن السباق المحموم لرفع نسب الاستماع لدى الإذاعات الخاصة. هنا لا بد كذلك من الإشارة إلى أن المستمع المتدخل في هذه البرامج قد يتخفى وراء أسماء مستعارة لكن الذي يهمنا في هذا التحليل ليس قطعا شخصه وإنما روايته لحالته. بل إن اللجوء للأسماء المستعارة قد يزيد من جرعة البوح لدى المستمع المتصل عبر الأثير في الكشف عن المكبوت ورفع الحظر عن المحظور
إن المستمع وهو يبوح بأسراره الجنسية يقوم من حيث لا يدري بعملية إفراز للمكبوت سرعان ما تتحول إلى موضوع فرجوي عندما يتدخل منشطو البرامج الأثيرية على حثه بدعوى توجيهه إلى قول المزيد. وفي مقابل هذا البوح الذي يمكن نعته بالمعطوب لا يحصل هذا المستمع من الطرف الآخر إلا على نصائح فجة لا تختلف في حمولتها عن "معرفة" الحس المشترك مما يجعلنا أمام تحصيل حاصل يعيد إنتاج خطاب اجتماعي معطوب. إن وقع إعادة إنتاج هذا النوع من الخطاب قد يكون أخطر على مستوى تعزيزه في ذهن المستمع إذا ما نظرنا إلى الكيفية التي يتمثل بها هذا الأخير الإذاعة كمصدر من مصادر "الحقيقة". 
بالحديث عن المستمع المنفعل مع أثير البوح تنكشف أولى ملامح "الإعلاميين" و"المختصين" من منشطي هذه البرامج. أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح بخصوص مؤهلاتهم المعرفية والتواصلية من قبيل : ما طبيعة تكوينهم؟ وما هو دورهم في اقتراح الحلول لقضايا طابوهية ونفسية واجتماعية شائكة قد يستعصي فك ألغازها حتى على الباحثين المتمرسين؟ إن مقاربة هذه الأسئلة تستدعي القيام بعملية تصنيف typologie هؤلاء المتدخلين بغية الكشف عن المزيد من ملامحهم.
 "إعلامي" "التفاعل" الأثيري: المختص في كل شيء ولا شيء...
إن المتتبع لمسار مختلف البرامج الأثيرية على أمواج الإذاعات الخاصة سيلاحظ أن بعضا منها قد انطلق باستضافته لضيوف "خبراء" في تخصصات مختلفة سرعان ما تحولوا -بفعل طول الإقامة -  إلى معدين ومنشطين دائمين لهذه البرامج. كما يمكنه ملاحظة أن البعض الآخر منها قد انطلق بمنشط "إعلامي" يستقبل حكي وبوح المستمعين ليتقمص في إجاباته أدوارا متعددة تجمع بين دور"السيكولوجي" و"المحلل" و"رجل الدين". وسواء تعلق الأمر "بالخبراء" أو "المنشطين" في هذه البرامج فإن أجوبتهم غالبا ما تتصف بأحكام قيمة تشبه إلى حد بعيد الوصفات الجاهزة. إن "الخبير" في هذه البرامج  يجد نفسه خارج  نطاق خبرته أمام حالات المستمعين المتعددة والتي تحمل كل منها خصوصية معينة لا يمكن معالجتها بطريقة إسقاطية وعلى الهواء مباشرة. الشيء الذي يتحول معه خطاب هذا الأخير إلى نصائح لا تختلف عن المتداول في الحس المشترك.
إذا حاولنا تصنيف "خبراء" ومنشطي هذه البرامج، فإننا سنجد أنفسنا أمام "بروفايلات" تحمل مزيجا من التخصصات والخلفيات التي تكشف عن مغالطات وتناقضات صارخة والتي يمكن رسم ملامحها على الشكل التالي:
             المحلل النفسي الفقيه: لعل المتتبع لأثير الإذاعات الخاصة سيكتشف ويتعرف على هذا البروفايل لصاحبه الذي يدعي من جهة ، انتماءه لحقل التحليل النفسي وفي نفس الوقت ينهل من الدين ومن القرآن الكريم للإجابة على أسئلة المستمعين. إنها اساءة مزدوجة في حق الدين والتحليل النفسي معا. للإشارة فقط؛ إن التحليل النفسي له سياقاته التي تخضع ممارسته للسرية والمتابعة في فضاء خاص وليس على الأثير. أما بخصوص استعمال الدين فإن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد وسيلة لاستمالة المستمعين ومخاطبة ذاكرتهم ومخزونهم التراثي والنفسي على حد سواء.
             المصلح الاجتماعي المفتي : هذا البروفايل لا يخص خبيرا أو منشطا بعينه وإنما هو بروفايل عابر للمحطات الإذاعية الخاصة في برامجها التفاعلية. فهو يطرح قضايا ترتبط بفئات اجتماعية مختلفة ليندد بوضعها الاجتماعي ويقدم حلولا سطحية لها وذلك في تبادل للأدوار بينه وبين المستمعين. قد يكون الأمر إيجابيا إذا نظرنا له من وجهة نظر الشعار الذي يقول : "إسماع صوت من لا صوت له " ولكن إذا ما نظرنا إليه من وجهة نظر علمية فإن القضية تصبح معقدة ما دام هذا البروفايل ينمط إجاباته في شكل " فتاوى" اجتماعية حول مواضيع لم يبت فيها البحث العلمي أصلا.
             الطبيب المشخص عن بعد : هذا البروفايل لا ينطبق على كل الأطباء المتدخلين في الإذاعة، ذلك أنه بقدر ما أن هناك أطباء في تخصصات مختلفة يقومون بتعريف للأمراض والعمل على الوقاية منها هناك من تحولوا من خلال الممارسة الإعلامية إلى مشخصين عن بعد. فتجد هذا البروفايل يتدحرج  بين الخوض في قضايا عضوية وأخرى نفسية مشخصا عن بعد انطلاقا من حكي المستمعين فتجده يتحدث في الإجهاض والاستمناء والجنسية المثلية وطبعا يقترح لكل هذا حلولا ترقيعية بعيدة كل البعد عن المنطق العلمي الذي يخضع مثل هذه القضايا للمساءلة المنهجية.
             "المنشط" المستقبل للحكي الحميمي : هذا البروفايل يعكس أكثر صورة منشط برامج البوح العاطفي والجنسي والعلاقات المتأزمة بين الرجل والمرأة. بخصوص هذا البروفايل والموجود في مختلف المحطات الإذاعية التي تقوم ببث برامجها ليلا ليصبح الكلام مباحا، ولنجد أنفسنا أمام قصص وحكايات غرامية لا يقوم المنشط إزاءها إلا بحث المتصلين على قول المزيد من الكلام الغير مباح.  في كثير من الأحيان تكون مداخلات هذا البروفايل عبارة عن تعابير لمواساة المتصلين والدعاء لهم بالفرج. إنها مداخلات تشبه إلى حد بعيد تنهيدة من لا حول له ولا قوة على معالجة الحالات الواردة على البرنامج بطرق ملائمة.
خاتمة
بالوصول للخاتمة لا يكون الحديث قد انتهى بخصوص البرامج "التفاعلية" ، فهناك بروفايلات أخرى "لخبراء"  ومنشطين "إعلاميين"  تجتمع كلها في نقطة واحدة وهي : إعطاء حلول معطوبة لإفرازات مكبوتة همها الوحيد يقتصر على المنافسة المحمومة لرفع نسب الاستماع. كما يمكن الإشارة كذلك إلى قضية اللغة المستعملة في هذه البرامج والتي لم يتم التطرق لها مما سيدفع بنا إلى العودة للموضوع من جديد لتحليل آليات اشتغال خطابه.
قبل الختم، لا بد من الإشارة إلى أن الإعلام في كل تجلياته السمعية والبصرية والكتابية يعد مؤسسة تنشئوية مما ينذر بتنشئة اجتماعية معطوبة إذا ما نظرنا لهذه الهفوات والآليات التي يشتغل عليها الإعلام السمعي الخاص في مجتمعنا. إن البرامج التفاعلية تعتبر مطلبا ملحا لما لها من دور تنشئوي فعال ولكن على أساس الرقي بالفكر والدفع بالمستمعين لإكتساب الحس النقدي حتى يمكن بناء شخصية قوية قادرة على التفكير والخروج من فكر الوصفات والقوالب الجاهزة.
إن الفكرة التي تقول : إن الإعلام يجب أن يكون مرآة  تعكس الواقع، هي فكرة مغلوطة ما دام الفهم السطحي لها يذهب في اتجاه إعادة إنتاج وتكريس الأعطاب الاجتماعية والنفسية. فإذا كان لا بد من تشبيه الإعلام بالمرآة، فلتكن هذه الأخيرة "مجلوة" بلغة ابن عربي… « لنرسم عليها ما ينبغي أن نكونه... »
باحث في علم النفس الاجتماعي وأستاذ السوسيولوجيا بالمعهد العالي الدولي للسياحة بطنجة


التسميات :

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:

الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحريرــ الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحرير
back to top