في احدى الليالي الباردة من بداية القرن الماضي,
انكبّ محرر في صحيفة "نيويورك وورلد" على مكتبه محاولاً التوصّل إلى فكرة
مميّزة للعدد الصادر في عيد الميلاد (الكريسمس).
بعد أن تذكّر "آرثر وين" (42 عاماً) مربّعات
الكلمات الصّغيرة التي قام بحلّها عندما كان صغيراً في مدينة "ليفربول" البريطانيّة,
رسم المحرر شبكة بشكل المعين, وقام بوضع رقم لكل مربّع, ومن ثم وضع مفاتيح ألغاز مرقّمة.
شملت الشبكة 32 كلمة, وكانت التعليمات بسيطة: "إملأ المربّعات الصغيرة بكلمات
تتوافق مع التعاريف التالية".
ظهر اللغز في صحيفة "نيويورك وورلد"؛
في 21 كانون الأول, عام 1913, وما ابتكره "آرثر وين" كان أول ألغاز الكلمات
المتقاطعة
'مضيعة للوقت'
ومع شعبيّة الكلمات المتقاطعة, حاول "وين"
إقناع مسؤولي الصحيفة بشمول الألغاز بحقوق النشر, غير أن رؤساءه في العمل اعتبروا الكلمات
المتقاطعة أمراً تافهاً وعابراً، كما أسمتها صحيفة "نيويورك تايمز" 'مضيعة
للوقت' في كلمات العدد الافتتاحيّة.
بعد سنوات قليلة, تضاءل اهتمام "وين"
بالألغاز, فرغم استمراره بكتابة الكلمات المتقاطعة, كان يستلم ألغاز القرّاء وينشرها,
ما جعله محرر الكلمات المتقاطعة الأول في البلاد أيضاً.
وبحلول العام 1921, وبعد ثماني سنوات من العمل على
الكلمات المتقاطعة, قرر "وين" تسليم المهمة إلى إحدى خريجات كلية "سميث"
الأميركية "مارغريت بيذربريج"؛ سكرتيرة الصحيفة, التي كانت تأمل أن تصبح
صحفيّة.
قواعد لكتابة الألغا
شأنها شأن معظم زملائها, لم تكن "بيذربريج"
مهتمة بالكلمات المتقاطعة إطلاقاً, ولم تختر الألغاز التي كانت تنشرها إلا لأنّ أشكالها
مثيرة للاهتمام, كما انها لم تحلّ أي لغز منها.غير أنّ "فرانكلين آدامز"؛
الكاتب الأكثر شعبيّة في الصحيفة, كان مولعاً بالكلمات المتقاطعة, لذا كان يقوم بحلِّها, وتوضيح الأخطاء المرتكبة فيها، وهي
على مكتب "بيذربريج". ولصعوبة طباعة شبكات الكلمات المتقاطعة, حاول منضّدو
الحروف المطبعيّة إلغاءها بشتّى الوسائل؛ كأن يقوموا بطباعة مفاتيح الألغاز بحروف أصغر,
أو أن يحذفوا بعضها كلياً.بعد فترة, شعرت "بيذربريج" بالخجل من ملاحظات
"آدامز", لذا قررت أن تجرّب حل أحد الألغاز, لكنّها لم تتمكّن من ذلك, فصممت
على أن تنظمها, وفي أشهر قليلة, كانت قد وضعت قواعد معينة لكتّاب الكلمات المتقاطعة,
والمدهش في الأمر هو أنّ هذه القواعد ما زالت متّبعة حتى يومنا هذا.بسّطت "بيذربريج"
نظام الترقيم؛ إذ كان "وين" في السابق يرقّم مربّع بداية الكلمة ونهايتها
أيضاً, وشددت على استخدام الكلمات الانكليزية المألوفة, وتجنّب المفردات الأجنبيّة
الغامضة, كما إنّها حدّدت عدد المربّعات السوداء بسُدس عدد مربّعات الشبكة فقط, وبذلك
وحّدت الكلمات المتقاطعة. ومنذ ذلك الحين, اختيرت الألغاز التي كانت على درجة عالية
من الحرفيّة لغرض طباعتها ونشرها, بالتالي اصبحت الكلمات المتقاطعة على جانب كبير من
الأهميّة.
ظاهرة وطنيّة
ومع تزايد شعبيتها، قرر خرّيجان من جامعة
"كولومبيا" الأميركيّة خوض تجربة نشر الكلمات المتقاطعة في العام 1924, وطلبا
من "بيذربريج" مساعدتهما على تأليف "كتاب ألغاز الكلمات المتقاطعة",
وبيع منه 400 ألف نسخة خلال أشهر قليلة. كما أعقب هذا الكتاب كتابان آخران, وبيع مليونا
نسخة منهما بمرور عامين.
ساعد نشر كتاب الألغاز الأول على اطلاق شهرة
"بيذربريج", والناشرَين الشّابَين؛ "ديك سايمون" و"ماكس شوستر",
إذ أصبحت الكلمات المتقاطعة ظاهرة وطنيّة.في العام 1926, تزوجت "بيذربريج",
فأصبح اسمها "مارغريت فارار", لتعيد تحرير ونشر سلسلة كتب "سايمون"
و"شوستر" تحت هذا الاسم لستين سنة أخرى.تُطلق "فارار" على عملها
عبارة 'المهنة غير المقصودة', وعندما بدأت العمل في عشرينيات القرن الماضي, لم تتوقّع
أن تثير مثل هذه الألغاز البسيطة الخلاف أو الجدل؛ إذ تغلّبت الكلمات المتقاطعة على
لعبة "ما جونغ" الصينيّة الشهيرة بين عشيّةٍ وضحاها.
هوس الكلمات المتقاطعة
كانت تُنشر أخبار متعلّقة بالكلمات المتقاطعة في
صحف "نيويورك كل أسبوع تقريبا؛ كخبر عن واعظ معمداني يكتب إحدى خطبه بصيغة الكلمات
المتقاطعة, ورجل يرفض مغادرة مطعم لحين اكماله اللغز فتطلب إخراجه من المطعم بالقوّة
على يد الشرطة, وإحدى محاكم مدينة "كليفلاند" الأميركيّة منحت إمرأة حكماً
بالطّلاق لأن زوجها مهووس بحل الكلمات المتقاطعة, ونادل من مدينة "بودابست"
يشرح اسباب اقدامه على الانتحار بواسطة الكلمات المتقاطعة, لكن الشرطة لم تتمكّن من
حلّها!.
شمل عرض "ألغاز العام 1925", على مسرح
"برودواي" الأميركي, مسرحيّة هزليّة ساخرة, ظهر فيها هواة الكلمات المتقاطعة
كمرضى في مصحّة, بينما بدأت قطارات الركّاب بوضع القواميس في جميع العربات, واضطرّت
"مكتبة لوس أنجليس العامّة" إلى وضع حد معيّن لفترة استخدام القاموس, وأصبحت
"ماري"؛ ملكة "إنكلترا", من هواة حل الكلمات المتقاطعة, كما أعلنت
"وزارة صّحة شيكاغو" أنّ حلّ الكلمات المتقاطعة مفيد للصحّة ويزيد من السعادة,
وأُعلِن أيضاً أنّ "بيتر روجيه"؛ مؤلّف موسوعة المفردات, هو 'القدّيس الراعي
لمحبّي الكلمات المتقاطعة'.
خلال هذه الفترة, أطلقت صحيفة "التايمز"
على الكلمات المتقاطعة عبارة 'جنون مؤقت', وأن هذا الجنون 'لا يخدم هدفاً مفيداً على
الاطلاق', وأنّه 'أمر سائد' سينتهي قريباً. لكنّ "التايمز" استسلمت أخيراً
في العام 1942, وعيّنت "مارغريت فارار" كأوّل محررّة كلمات متقاطعة لها.
تقول "كاي"؛ ابنة "آرثر وين",
أنّ والدها اعتاد القول أنّه لم يكسب قرشاً واحداً من الكلمات المتقاطعة, لذا تأمل
أن يحصل على بعض التّقدير من خلال الحديث عن الذكرى المئة لإنجازه هذا.
ميرل ريغل/ عن صحيفة واشنطن بوست الأميركية
0 التعليقات: